فصل: قال شيخ الإسلام أما الركن اليماني فلا يقبل

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


/ وقال شيخ الإسلام ـ رحمه الله‏:‏

وأما الركن اليماني فلا يقبل على القول الصحيح، وأما سائر جوانب البيت، والركنان الشاميان، ومقام إبراهيم فلا يقبل، ولا يتمسح به باتفاق المسلمين المتبعين للسنة المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم ‏.‏

فإذا لم يكن التمسح بذلك، وتقبيله مستحبًا، فأولي ألا يقبل ولا يتمسح بما هو دون ذلك‏.‏

واتفق العلماء على أنه لا يستحب لمن سلم على النبي صلى الله عليه وسلم عند قبره أن يقبل الحجرة، ولا يتمسح بها لئلا يضاهي بيت المخلوق بيت الخالق، ولأنـه قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏لا تتخذوا قبري عيدًا‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك‏)‏‏.‏ فإذا كان هذا دين المسلمين في قبر النبي صلى الله عليه وسلم، الذي هو سيد ولد آدم، فقبر غيره أولي ألا يقبل ولا يستلم‏.‏

وقد حكي بعض العلماء في هذا خلافًا مرجوحًا، وأما الأئمة المتبعون، والسلف الماضون، فما أعلم بينهم في ذلك خلافًا، والله سبحانه أعلم‏.‏

/ وقال شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن شهاب الدين عبد الحليم ابن الإمـام مـجد الـدين عبد السـلام بن عبد الله بن تيمية ـ رضي الله عنه‏:‏

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا‏.‏

أما بعد‏:‏ فقد تكرر السؤال من كثير من المسلمين أن أكتب في بيان مناسك الحج، ما يحتاج إليه غالب الحجاج في غالب الأوقات، فإني كنت قد كتبت منسكًا في أوائل عمري، فذكرت فيه أدعية كثيرة، وقلدت في الأحكام من اتبعته قبلي من العلماء، وكتبت في هذا ما تبين لي من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مختصرًا مبينًا، ولا حول ولا قوة إلا بالله‏.‏

/ فصل

أول ما يفعله قاصد الحج والعمرة إذا أراد الدخول فيهما‏:‏ أن يحرم بذلك، وقبل ذلك فهو قاصد الحج أو العمرة، ولم يدخل فيهما بمنزلة الذي يخرج إلى صلاة الجمعة فله أجر السعي، ولا يدخل في الصلاة حتي يحرم بها‏.‏

وعليه إذا وصل إلى الميقات أن يحرم‏.‏ والمواقيت خمسة‏:‏ ذو الحليفة، والجُحْفة، وقَرْن المنازل، وَيلمْلَم، وذات عِرْق، ولما وقت النبي صلى الله عليه وسلم المواقيت قال‏:‏ ‏(‏هن لأهلهن ولمن مر عليهن من غير أهلهن، لمن يريد الحج والعمرة، ومن كان منزله دونهن فمهلُّه من أهله، حتي أهل مكة يهلون من مكة‏)‏‏.‏

فذو الحليفة‏:‏ هي أبعد المواقيت، بينها وبين مكة عشر مراحل، أو أقل أو أكثر بحسب اختلاف الطرق، فإن منها إلى مكة عدة طرق، وتسمي وادي العَقِيق، ومسجدها يسمي مسجد الشجرة، وفيها بئر، تسميها جهال العامة‏:‏ ‏[‏بئر علي‏]‏ ؛ لظنهم أن عليا قاتل الجن بها، وهو كذب، فإن الجن لم يقاتلهم أحد من الصحابة، وعلى أرفع /قدرًا من أن يثبت الجن لقتاله، ولا فضيلة لهذا البئر، ولا مذمة، ولا يستحب أن يرمي بها حجرًا ولا غيره‏.‏

وأما الجحفة‏:‏ فبينها وبين مكة نحو ثلاث مراحل، وهي قرية كانت قديمة معمورة، وكانت تسمي مهيعة، وهي اليوم خراب؛ ولهذا صار الناس يحرمون قبلها من المكان الذي يسمي رابغًا، وهذا ميقات لمن حج من ناحية المغرب‏:‏ كأهل الشام ومصر، وسائر المغرب لكن إذا اجتازوا بالمدينة النبوية ـ كما يفعلونه في هذه الأوقات ـ أحرموا من ميقات أهل المدينة، فإن هذا هو المستحب لهم بالاتفاق‏.‏ فإن أخروا الإحرام إلى الجحفة ففيه نزاع‏.‏

وأما المواقيت الثلاثة‏.‏ فبين كل واحد منها وبين مكة نحو مرحلتين‏.‏ وليس لأحد أن يجاوز الميقات إذا أراد الحج أو العمرة إلا بإحرام‏.‏ وإن قصد مكة للتجارة أو الزيارة فينبغي له أن يحرم، وفي الوجوب نزاع‏.‏

ومن وافي الميقات في أشهر الحج، فهو مخير بين ثلاثة أنواع‏:‏ وهي التي يقال لها‏:‏ التمتع، والإفراد، والقران، إن شاء أَهَلَّ بعمرة، فإذا حل منها أَهَلَّ بالحج، وهو يخص باسم التمتع، وإن شاء أحرم بهما جميعًا، أو أحرم بالعمرة ثم أدخل عليها الحج قبل الطواف، /وهو القران، وهو داخل في اسم التمتع في الكتاب والسنة، وكلام الصحابة، وإن شاء أحرم بالحج مفردًا، وهو الإفراد‏.‏

 فصل

في الأفضل من ذلك‏:‏

فالتحقيق في ذلك أنه يتنوع باختلاف حال الحاج، فإن كان يسافر سفرة للعمرة، وللحج سفرة أخري، أو يسافر إلى مكة قبل أشهر الحج، ويعتمر ويقيم بها حتي يحج، فهذا الإفراد له أفضل باتفاق الأئمة الأربعة‏.‏

والإحرام بالحج قبل أشهره ليس مسنونًا، بل مكروه، وإذا فعله فهل يصير محرمًا بعمرة، أو بحج، فيه نزاع‏.‏

وأما إذا فعل ما يفعله غالب الناس، وهو أن يجمع بين العمرة والحج في سفرة واحدة، ويقدم مكة في أشهر الحج وهن‏:‏ شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة، فهذا إن ساق الهدي فالقران أفضل له، وإن لم يسق الهدي فالتحلل من إحرامه بعمرة أفضل، فإنه قد ثبت بالنقول المستفيضة التي لم يختلف في صحتها أهل /العلم بالحديث، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حج حجة الوداع، هو وأصحابه، أمرهم جميعهم أن يحلوا من إحرامهم، ويجعلوها عمرة، إلا من ساق الهدي، فإنه أمره أن يبقي على إحرامه حتي يبلغ الهدي محله يوم النحر، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد ساق الهدي هو وطائفة من أصحابه، وقَرَن هو بين العمرة والحج، فقال‏:‏ ‏(‏لبيك عمرة وحجًا‏)‏‏.‏

ولم يعتمر بعد الحج أحد ممن كان مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا عائشة وحدها؛ لأنها كانت قد حاضت، فلم يمكنها الطواف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت‏)‏‏.‏ فأمرها أن تهل بالحج، وتدع أفعال العمرة لأنها كانت متمتعة، ثم إنها طلبت من النبي صلى الله عليه وسلم أن يعمرها فأرسلها مع أخيها عبد الرحمن، فاعتمرت من التنعيم، والتنعيم هو أقرب الحل إلى مكة، وبه اليوم المساجد التي تسمي ‏[‏مساجد عائشة‏]‏ ، ولم تكن هذه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما بنيت بعد ذلك علامة على المكان الذي أحرمت منه عائشة، وليس دخول هذه المساجد، ولا الصلاة فيها ـ لمن اجتاز بها محرمًا ـ لا فرضًا ولا سنة، بل قصد ذلك، واعتقاد أنه يستحب بدعة مكروهة، لكن من خرج من مكة ليعتمر، فإنه إذا دخل واحدًا منها وصلي فيه/ لأجل الإحرام، فلا بأس بذلك‏.‏

ولم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين أحد يخرج من مكة ليعتمر إلا لعذر، لا في رمضان ولا في غير رمضان، والذين حجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيهم من اعتمر بعد الحج من مكة، إلا عائشة كما ذكر‏.‏ ولا كان هذا من فعل الخلفاء الراشدين، والذين استحبوا الإفراد من الصحابة إنما استحبوا أن يحج في سفرة، ويعتمر في أخري، ولم يستحبوا أن يحج ويعتمر عقب ذلك عمرة مكية، بل هذا لم يكونوا يفعلونه قط، اللهم إلا أن يكون شيئًا نادرًا‏.‏

وقد تنازع السلف في هذا‏:‏ هل يكون متمتعًا عليه دم‏؟‏ أم لا‏؟‏ وهل تجرئه هذه العمرة عن عمرة الإسلام‏؟‏ أم لا‏؟‏‏.‏

وقد اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم بعد هجرته أربع عمر‏:‏

عمرة الحديبية‏.‏ وصل إلى الحديبية ـ والحديبية وراء الجبل الذي بالتنعيم عند مساجد عائشة عن يمينك وأنت داخل إلى مكة ـ فصده المشركون عن البيت فصالحهم، وحل من إحرامه، وانصرف‏.‏ وعمرة القضية؛ اعتمر من العام القابل‏.‏

وعمرة الجعرانة؛ فإنه كان قد قاتل المشركين بحنين، وحنين من /ناحية المشرق من ناحية الطائف، وأما بدر فهي بين المدينة وبين مكة وبين الغزوتين ست سنين، ولكن قرنتا في الذكر؛ لأن الله تعالى أنزل فيهما الملائكة لنصر النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين في القتال، ثم ذهب فحاصر المشركين بالطائف، ثم رجع وقسم غنائم حنين بالجِعْرَانة، فلما قسم غنائم حنين اعتمر من الجعرانة داخلا إلى مكة لا خارجًا منها للإحرام‏.‏

والعمرة الرابعة مع حجته، فإنه قرن بين العمرة والحج باتفاق أهل المعرفة بسنته، وباتفاق الصحابة على ذلك، ولم ينقل عن أحد من الصحابة أنه تمتع تمتعًا حل فيه، بل كانوا يسمون القران تمتعًا، ولا نقل عن أحد من الصحابة أنه لما قرن طاف طوافين، وسعي سعيين‏.‏

وعامة المنقول عن الصحابة في صفة حجته ليست بمختلفة، وإنما اشتبهت على من لم يعرف مرادهم، وجميع الصحابة الذين نقل عنهم أنه أفرد الحج؛ كعائشة، وابن عمر، وجابر‏.‏ قالوا‏:‏ إنه تمتع بالعمرة إلى الحج‏.‏ فقد ثبت في الصحيحين عن عائشة وابن عمر بإسناد أصح من إسناد الإفراد، ومرادهم بالتمتع القِران، كما ثبت ذلك في الصحاح أيضًا‏.‏

فإذا أراد الإحرام، فإن كـان قارنًا قال‏:‏ لبيك عمرة وحجًا‏.‏ وإن كان متمتعًا قال‏:‏ لبيك عمرة متمتعًا بها إلى الحج‏.‏ وإن كان مفردًا قال‏:‏ لبيك حجة، /أو قال‏:‏ اللهم إني أوجبت عمـرة وحجًا، أو أوجبت عمرة أتمتع بها إلى الحج، أو أوجبت حجًا، أو أريد الحج، أو أريدهما، أو أريد التمتع بالعمرة إلى الحج، فمهما قال من ذلك أجزأه باتفاق الأئمـة، ليس في ذلك عبارة مخصوصـة، ولا يجب شيء من هذه العبارات، باتفاق الأئمة، كما لا يجب التلفظ بالنية في الطهارة، والصلاة، والصيام، باتفاق الأئمة، بل متي لبي قاصدًا للإحرام انعقد إحرامه باتفاق المسلمين، ولا يجب عليه أن يتكلم قبل التلبية بشيء‏.‏

ولكن تنازع العلماء‏:‏ هل يستحب أن يتكلم بذلك‏؟‏ كما تنازعوا‏:‏ هل يستحب التلفظ بالنية في الصلاة‏؟‏ والصواب المقطوع به‏:‏ أنه لا يستحب شيء من ذلك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع للمسلمين شيئًا من ذلك، ولا كان يتكلم قبل التكبير بشيء من ألفاظ النية، لا هو ولا أصحابه، بل لما أمر ضباعة بنت الزبير، بالاشتراط، قالت‏:‏ فكيف أقول‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏قولي‏:‏ لبيك اللهم لبيك، ومحلي من الأرض حيث تحبسني‏)‏‏.‏ رواه أهل السنن، وصححه الترمذي، ولفظ النسائي‏:‏ إني أريد الحج فكيف أقول‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏قولي‏:‏ لبيك اللهم لبيك، ومحلي من الأرض حيث تحبسني، فإن لَكِ على ربك ما استثنيتِ‏)‏ وحديث الاشتراط في الصحيحين‏.‏

لكن المقصـود بهـذا اللفـظ أنه أمرهـا بالاشتراط في التلبية، ولــم /يأمرها أن تقول قبــل التلبية شيئًا، لا اشتراطًا ولا غيره، وكان يقول في تلبيته‏:‏ ‏(‏لبيك عمرة وحجا‏)‏‏.‏وكان يقـول للواحـد مـن أصحابه‏:‏ ‏(‏بم أهللت‏؟‏‏)‏‏.‏ وقـال في المواقيت‏:‏ ‏(‏مَهَلُّ أهل المدينـة ذو الحُلَيفَـة، ومهل أهل الشام الجُحْفَة، ومهل أهل اليمن يلَمْلَم، ومهل أهل نجد قرن المنازل، ومهل أهل الـعراق ذات عِـْرق، ومـن كـان دونهن فمهله من أهله‏)‏، والإهلال هو التلبية، فهذا هو الذي شرع النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين التكلم به في ابتداء الحج والعمرة، وإن كان مشروعًا بعد ذلك كما تشرع تكبيرة الإحرام، ويشرع التكبير بعد ذلك عند تغير الأحوال‏.‏

ولو أحرم إحرامًا مطلقًا جاز، فلو أحرم بالقصد للحج من حيث الجملة، ولا يعرف هذا التفصيل جاز‏.‏

ولو أهل ولبي كما يفعل الناس قاصدًا للنسك، ولم يسم شيئًا بلفظه ولا قصد بقلبه لا تمتعًا ولا إفرادًا، ولا قرانا ـ صح حجه أيضًا، وفعل واحدًا من الثلاثة‏:‏ فإن فعل ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه كان حسنًا، وإن اشترط على ربه خوفًا من العارض، فقال‏:‏ وإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني، كان حسنًا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر ابنة عمه ضباعة بنت الزبير ابن عبد المطلب أن تشترط على ربها، لما كانت شاكية، فخاف أن يصدها المرض عن البيت، ولم /يكن يأمر بذلك كل من حج‏.‏

وكذلك إن شاء المُحْرِم أن يتطيب في بدنه فهو حسن، ولا يؤمر المُحْرِم قبل الإحرام بذلك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم فعله، ولم يأمر به الناس، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يأمر أحدًا بعبارة بعينها، وإنما يقال‏:‏ أَهَلَ بالحج، أَهَلَ بالعمرة، أو يقال‏:‏ لبي بالحج، لبي بالعمرة، وهو تأويل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 197‏]‏ ‏.‏

وثبت عنه في الصحيحين أنه قال‏:‏ ‏(‏من حج هذا البيت، فلم يرْفُث، ولم يفْسُق، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه‏)‏‏.‏ وهذا على قراءة من قرأ‏:‏ ‏[‏فلا رفثُ ولا فسوق‏]‏ بالرفع، فالرفث‏:‏ اسم للجماع قولا وعملا، والفسوق‏:‏ اسم للمعاصي كلها، والجدال ـ على هذه القراءة ـ‏:‏ هو المراء في أمر الحج‏.‏ فإن الله قد أوضحه وبينه، وقطع المراء فيه، كما كانوا في الجاهلية يتمارون في أحكامه وعلى القراءة الأخري قد يفسر بهذا المعني أيضًا، وقد فسروها بألا يماري الحاج أحدًا، والتفسير الأول أصح، فإن الله لم ينه المُحْرم ولا غيره عن الجدال مطلقًا، بل الجدال قد يكون واجبًا أو مستحبًا، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 125‏]‏ ، وقد يكون الجدال محرمًا في الحج وغيره كالجدال بغير علم‏.‏ وكالجدال في الحق بعد ما تبين‏.‏

/ولفظ ‏[‏الفسوق‏]‏ يتناول ما حرمه الله تعالى، ولا يختص بالسباب وإن كان سباب المسلم فسوقًا، فالفسوق يعم هذا وغيره‏.‏

و‏[‏الرفث‏]‏ هو الجماع، وليس في المحظورات ما يفسد الحج إلا جنس الرفث، فلهذا ميز بينه وبين الفسوق‏.‏

وأما سائر المحظورات، كاللباس، والطيب، فإنه وإن كان يأثم بها، فلا تفسد الحج عند أحد من الأئمة المشهورين‏.‏

وينبغي للمحرم ألا يتكلم إلا بما يعنيه، وكان شُرَيح إذا أحرم كأنه الحية الصماء، ولا يكون الرجـل محـرمًا بمجرد مـا في قلبه من قصد الحج، ونيته، فإن القصد مازال في القلب منذ خرج من بلده، بل لابـد من قول أو عمل يصير به محرمًا؛ هذا هو الصحيح من القولين‏.‏ والتجرد من اللباس واجب في الإحرام، وليس شرطًا فيه، فلو أحرم وعليه ثياب صح ذلك بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وباتفاق أئمة أهل العلم، وعليه أن ينزع اللباس المحظور‏.‏

 فصل

يستحب أن يحرم عقيب صلاة، إما فرض، وإما تطوع إن كان/ وقت تطوع في أحد القولين، وفي الآخر إن كان يصلي فرضًا أحرم عقيبه وإلا فليس للإحرام صلاة تخصه، وهذا أرجح‏.‏

ويستحب أن يغتسل للإحرام، ولو كانت نفساء أو حائضًا، وإن احتاج إلى التنظيف‏:‏ كتقليم الأظفار، ونتف الإبط، وحلق العانة، ونحو ذلك فعل ذلك‏.‏ وهذا ليس من خصائص الإحرام، وكذلك لم يكن له ذكر فيما نقله الصحابة، لكنه مشروع بحسب الحاجة، وهكذا يشرع لمصلي الجمعة والعيد على هذا الوجه‏.‏

ويستحب أن يحرم في ثوبين نظيفين، فإن كانا أبيضين فهما أفضل، ويجوز أن يحرم في جميع أجناس الثياب المباحة؛ من القطن والكتان، والصوف‏.‏

والسنة أن يحرم في إزار ورداء، سواء كانا مخيطين، أو غير مخيطين، باتفاق الأئمة، ولو أحرم في غيرهما جاز، إذا كان مما يجوز لبسه، ويجوز أن يحرم في الأبيض، وغيره من الألوان الجائزة، وإن كان ملونًا‏.‏

والأفضل أن يحرم في نعلين إن تيسر، والنعل هي التي يقال لها‏:‏ التاسومة، فإن لم يجـد نعلين لبس خفـين، وليس عليه أن يقطعهما دون الكعبـين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالقطع أولًا، ثم /رخص بعد ذلك في عرفات في لبس السراويل، لمن لم يجد إزارًا، ورخص في لبس الخفين لمن لم يجد نعلين، وإنما رخص في المقطوع أولا؛ لأنه يصير بالقطع كالنعلين‏.‏

ولهذا كان الصحيح أنه يجوز أن يلبس ما دون الكعبين؛ مثل الخف المكعب، والجمجم، والمداس، ونحو ذلك، سواء كان واجدًا للنعلين، أو فاقدًا لهما‏.‏ وإذا لم يجد نعلين، ولا ما يقوم مقامهما، مثل الجمجم، والمداس، ونحو ذلك‏.‏ فله أن يلبس الخف، ولا يقطعه، وكذلك إذا لم يجد إزارًا فإنه يلبس السراويل، ولا يفتقه، هذا أصح قولي العلماء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في البدل في عرفات كما رواه ابن عمر‏.‏

وكذلك يجوز أن يلبس كل ما كان من جنس الإزار والرداء، فله أن يلتحف بالقباء، والجبة، والقميص، ونحو ذلك، ويتغطي به باتفاق الأئمة عرضًا، ويلبسه مقلوبًا، يجعل أسفله أعلاه، ويتغطي باللحاف وغيره؛ ولكن لا يغطي رأسه إلا لحاجة، والنبي صلى الله عليه وسلم نهي المحرم أن يلبس القميص، والبرنس، والسراويل، والخف، والعمامة‏.‏ ونهاهم أن يغطوا رأس المحرم بعد الموت، وأمر من أحرم في جبة أن ينزعها عنه‏.‏ فما كان من هذا الجنس فهو في معني ما نهي عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فما كان في معني القميص /فهو مثله، وليس له أن يلبس القميص لا بكم، ولا بغير كم، وسواء أدخل فيه يديه، أو لم يدخلهما، وسواء كان سليمًا أو مخروقًا، وكذلك لا يلبس الجبة، ولا القباء الذي يدخل يديه فيه، وكذلك الدرع الذي يسمي‏:‏ ‏[‏عرق جين‏]‏ ، وأمثال ذلك باتفاق الأئمة‏.‏

وأما إذا طرح القباء على كتفيه، من غير إدخال يديه، ففيه نزاع‏.‏ وهذا معني قول الفقهاء‏:‏ لا يلبس‏.‏ والمخيط ما كان من اللباس على قدر العضو، وكذلك لا يلبس ما كان في معني الخف‏:‏ كالموق، والجورب، ونحو ذلك‏.‏

ولا يلبس ما كان في معني السراويل، كالتبان، ونحوه، وله أن يعقد ما يحتاج إلى عقده، كالإزار، وهميان النفقة، والرداء لا يحتاج إلى عقده، فلا يعقده، فإن احتاج إلى عقده ففيه نزاع، والأشبه جوازه حينئذ‏.‏ وهل المنع من عقده منع كراهة أو تحريم، فيه نزاع، وليس على تحريم ذلك دليل، إلا ما نقل عن ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ أنه كره عقد الرداء‏.‏ وقد اختلف المتبعون لابن عمر، فمنهم من قال‏:‏ هو كراهة تنزيه كأبي حنيفة، وغيره، ومنهم من قال‏:‏ كراهة تحريم‏.‏

وأما الرأس فلا يغطيه لا بمخيط ولا غيره، فــلا يغطيه بعمامة، ولا قلنسوة، ولا كوفية، ولا ثوب يلصق بـــه، ولا غير ذلك ‏.‏ وله أن / يستظل تحت السقف، والشجر، ويستظل في الخيمة، ونحـــوه ذلك باتفاقهم‏.‏ وأما الاستظلال بالمحمل؛ كالمحارة التي لها رأس في حال السير، فهذا فيــــه نزاع، والأفضل للمحرم أن يضحي لمن أحرم له، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يحجون، وقــــد رأي ابن عمر رجلا ظُلِلَ عليه فقال‏:‏ أيها المُحْرم، أضح لمن أحرمت له‏.‏ ولهذا كــــان السلف يكرهون الق

باب على المحامل، وهي المحامل التي لها رأس، وأما المحامل المكشوفة فلم يكرهها إلا لبعض النساك، وهذا في حق الرجل‏.‏

وأما المرأة فإنها عورة، فلذلك جاز لها أن تلبس الثياب التي تستتر بها، وتستظل بالمحمل، لكن نهاها النبي صلى الله عليه وسلم أن تنتقب، أو تلبس القفازين، والقفازان‏:‏ غلاف يصنع لليد، كما يفعله حملة البزاة، ولو غطت المرأة وجهها بشيء لا يمس الوجه جاز بالاتفاق، وإن كان يمسه فالصحيح أنه يجوز أيضًا‏.‏ ولا تكلف المرأة أن تجافي سترتها عن الوجه، لا بعود ولا بيد، ولا غير ذلك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم سوي بين وجهها ويديها، وكلاهما كبدن الرجل، لا كرأسه‏.‏

وأزواجه صلى الله عليه وسلم كن يسدلن على وجوههن من غير مراعاة المجافاة، ولم ينقل أحد من أهل العلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏[‏إحرام المرأة في وجهها‏]‏ ، وإنما هذا قول بعض السلف، لكن النبي صلى الله عليه وسلم نهاها أن تنتقب، أو تلبس القفازين‏.‏

/كما نهي المحرم أن يلبس القميص، والخف، مع أنه يجوز له أن يستر يديه ورجليه، باتفاق الأئمة، والبرقع أقوي من النقاب‏.‏ فلهذا ينهي عنه باتفاقهم، ولهذا كانت المحرمة لا تلبس ما يصنع لستر الوجه، كالبرقع ونحوه، فإنه كالنقاب‏.‏

وليس للمحـرم أن يلبس شيئًا ممـا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه إلا لحاجة، كما أنه ليس للصائم أن يفطر إلا لحاجة، والحاجة مثل البرد الـذي يخـاف أن يمرضـه، إذا لـم يغط رأسه، أو مثل مرض نزل به يحتاج معه إلى تغطيـة رأسه، فيلبس قـدر الحاجـة، فإذا استغنى عنه نزع‏.‏

عليه أن يفتدي‏:‏ إما بصيام ثلاثة أيام، وإما بنسك شاة، أو بإطعام ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع من تمر، أو شعير، أو مُدٍّ من بر، وإن أطعمه خبزًا جاز، ويكون رطلين، بالعراقي، قريبًا من نصف رطل بالدمشقي، وينبغي أن يكون مأدومًا، وإن أطعمه مما يؤكل؛ كالبقسماط، والرقاق، ونحو ذلك جاز، وهو أفضل من أن يعطيه قمحًا أو شعيرًا، وكذلك في سائر الكفارات، إذا أعطاه مما يقتات به مع أدمه، فهو أفضل من أن يعطيه حبًا مجردًا إذا لم يكن عادتهم أن يطحنوا بأيديهم، ويخبزوا بأيديهم، والواجب في ذلك كله ما ذكره الله تعالى بقوله‏:‏ ‏{‏إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ‏}‏ الآية ‏[‏المائدة‏:‏ 89‏]‏ ، فأمر الله تعالى بإطعام المساكين من أوسط ما يطعم الناس أهليهم‏.‏

وقد تنازع العلماء في ذلك، هل ذلك مقدر بالشرع، أو يرجع فيه إلى العرف، وكذلك تنازعوا في النفقة؛ نفقة الزوجة‏.‏ والراجح في هذا كله أن يرجع فيه إلى العرف، فيطعم كل قوم مما يطعمون أهليهم، ولما كان كعب بن عُجْرَة ونحوه يقتاتون التمر، أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يطعم فرقًا من التمر بين ستة مساكين، والفرق ستة عشر رطلا بالبغدادي‏.‏

وهذه الفدية يجوز أن يخرجها إذا احتاج إلى فعل المحظور قبله وبعده، ويجوز أن يذبح النسك قبل أن يصل إلى مكة ويصوم الأيام الثلاثة متتابعة إن شاء، ومتفرقة إن شاء‏.‏ فإن كان له عذر أخر فعلها، وإلا عجل فعلها‏.‏

وإذا لبس، ثم لبس مرارًا، ولم يكن أدي الفدية أجزأته فدية واحدة في أظهر قولي العلماء‏.‏